كنت اليوم في سوق القزّازين أحد أحياء دمشق
وكان الازدحام كالعادة.. (بصطات) الخضار
فلّاحات يبعن الخبّيزة والسلق والملفوف والبقدونس على مدّ النظر.
كنت أبحث عن بندورة بلدية ليست من تلك التي لا طعم لها..
لمحت رجلاً مسنّاً أمامه صندوق من البندورة والباذنجان والكوسا..
تقدمت منه وسألته: من أين هذه البندورة؟
ردّ: من أين لي أن أعرف! إذا أعجبتك خذ منها..
لا حظت أنه عصبي المزاج كأنه متضايق
فقلت: خيراً إن شاء الله، هل أنت منزعج؟
نظر لي بطرف عينه وهو يرتب بصطته
وقال: هل أعجبتك البندورة؟
قلت: بكم الكيلو؟
قال: الله وكيلك من الصبح لم أستفتح.. كم تريد أن تدفع أنا أقبل.
قلت: هاتِ الكيس.
قال: أنا أملأ لك الكيس.. كم كيلو تريد؟
قلت: حجّي أنا أريد أن أنتقي الجيد منها
وخذ السعر الذي تريده، أريد أربعة كيلوغرامات.
قال: الصندوق فيه سبعة كيلو.. خذه وأحسب لك سعراً معقولاً.
شعرت أنه يردي أن يبيع بأي طريقة
فقلت: أعطيك 75 ليرة بالكيلو..
وإذ بولد يصل لعندنا ويقول للرجل المسن: (جدّو شو صار معك؟)..
فقال لي: هات النقود..
أخذها منّي وقال لحفيده: اذهب وأحضر الخبز والفول وسألحق بك..
ثم قال لي: الله يعطيك العافية ويجزيك الخير..
هل تأخذ الباذنجان والكوسا بنصف السعر!؟
قلت: و لِمَ بنصف السعر؟
قال: وكيلك الله من أمس أريد شراء دواء لزوجتي
ولم أحصّل المبلغ كاملاً..
وحصل التفجير البارحة فلم يخرج أحد من بيته
وعندي ثلاثة أولاد و أنا مسؤول عنهم ومعيلهم لأن والدهم استشهد.
أخرجت كل النقود التي في جيبي وأعطيتها له
فلم يأخذ إلا 500 ليرة وقال: ها قد ملكت سعر الدواء!
قلت: يا حجّي أنا أود أن أساعدك
وأعطيك كل المبلغ راضياً من كل نفسي.
قال: يا ابني.. وأنا أقرأ الفاتحة أثناء دفن ابني الشهيد
وعدته أن أعيل أبناءه مرفوعي الرأس
والمبلغ كله ليس من حقّي
وإذا أخذته أكون قد (وطّيت) رأسي ورؤوس أولاد ابني
وخذلت الشهيد.. إذا كنت تريد فعل الخير
اقصد ذلك الفرن واشترِ ربطة خبز وأعطها لأهل الحاجة
الحمد لله.. كل شيء أصبح غالي السعر إلا ربطة الخبز!
قلت: يا حجي أود أن أسألك هذا السؤال.. (لوين رايح بلدنا؟).
رد والبسمة على شفتيه:
(تروح وين ما بدها تروح.. المهم نحنا نبقى)
ما دام الخير موجوداً و ربطة الخبز متوفرة
فالبلد ستبقى بخير
والحامي هو الرحمن.. فلا تخف أبداً.
عبدالرحمن الحريري - عن عماد جبّور – بتصرّف