لقد كانت مصر وسورية عبر التاريخ
جناحان لطائر واحد يحلق في سماء العرب
يقود قافلتهم صعوداً أو هبوطاً..
فكلما كان هذان الجناحان متعافيان كان التحليق إلى كبد السماء،
وإذا ما أصاب هذان الجناحان أو أحدهما عور
فالهبوط إلى القاع مصيره!!
فمن القاهرة ودمشق انطلقت جيوش تحرير
البلاد من الصليبيين بقيادة القائد العادل صلاح الدين
وطويت على يديه محنة احتلال الصليبيين لبلاد الشام
والقدس الشريف في معركة حطين الخالدة،
ومن دمشق والقاهرة انطلقت جيوش الحرية والكرامة
تواجه المغول والتتار وتكسر أسطورة الجيش الذي لا يقهر
في عين جالوت على يد البطل الشجاع المظفر قطز،
وتحرر الشام من دنس ووحشية هؤلاء الأقوام البرابرة
وتطوي صفحتهم السوداء وإلى الأبد،
ومن القاهرة انطلق إبراهيم باشا إلى دمشق
ليعيد أمجاد السلف ويوحد أرض الكنانة مع الشام
في وحدة صمدت في وجه الغرب الطامع
في بلادنا لنحو عشر سنوات،
ومن دمشق قلب العروبة النابض أعلن عن قيام وحدة مصر مع سورية
لتقف يداً واحدة في مواجهة الحلف
الصهيوني والغرب اللئيم الطامع في بلادنا،
والمد الشيوعي الذي هدد هويتنا الإسلامية
وقيمنا الروحية وسلوكنا الإنساني،
ولم تصمد تلك الوحدة التي كانت حلم العرب من المحيط إلى الخليج
لعوامل داخلية وخارجية ليس هنا المقام لسردها أو التذكير بها.
وبعد ثبات طويل شارف على النصف قرن وقد اعتل جناحي هذا الطائر ليعيش في كبوة ظلماء، خيمت على القاهرة ودمشق غيوم سوداء مكفهرة إلى أن انتفضت القاهرة يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وليحقق الشعب المصري نصره على الطغمة الحاكمة الفاسدة سريعاً، ويتنازل الرئيس المخلوع حسني مبارك عن الحكم، ولم تتأخر دمشق طويلاً عن الانتفاض على النظام الباغي المتجبر فقد أعلن الشعب السوري ثورته في الخامس عشر من آذار من نفس العام، وتسارعت الأمور في ذينك البلدين، وتعثرت أحوالهما فقد تمكن نظام دمشق الباغي من جر السوريين إلى المواجهة العسكرية، ظناً منه أنه سيتمكن بما يملكه من ترسانة أسلحة هائلة ومتطورة مدعومة بجسور جوية وبحرية وبرية من دول محور الشر (روسيا وإيران والضاحية الجنوبية في بيروت والمنطقة الخضراء في بغداد) أنه سيتمكن من دحر الثورة وإلحاق هزيمة سريعة بالثوار، وخاب فأل ذاك الباغي الذي لجأ – كما فعلت موسكو في الشيشان – إلى سياسة الأرض المحروقة، حيث تمكن الجيش الحر وكتائب الثوار – بما غنموه من أسلحة فلول النظام المنهزمة – إلى الصمود وتحرير القسم الأكبر من الأراضي السورية من قبضة النظام، وصار الحال إلى ما وصلت إليه الثورة بين كر وفر مع النظام الباغي، وقد تنكر لها العديد من الإخوة والأصدقاء بعد وعود وعهود وأمنيات كانت حبراً على ورق مصيرها الغرق.
ولم ييأس الشعب السوري أو يكل أو يمل أو يتخاذل أو يتراجع رغم الضربات الموجعة والمؤلمة ورغم الحصار الخانق ومئات الألوف من الشهداء والجرحى والمفقودين والمعتقلين والنازحين والمهجرين، فلا يزل منتصب القامة يتحدى بكبرياء صلف باغي دمشق وأعوانه، تصدح حناجر أبنائه (يا رب مالنا غيرك).
وتعثرت الأمور في مصر بعد نجاح الثورة وانتخابات حرة ونزيهة أفرزت ولأول مرة في تاريخ مصر رئيساً منتخباً وبرلماناً ومجلس شورى وإقرار دستور نال رضا ثلثي المصريين، ولكن هذه التجربة الديمقراطية الرائعة لم تدم طويلاً بفعل عوامل خارجية وداخلية، تمكنت من وأدها في الثلاثين من حزيران، لتدخل مصر الكنانة في نفق مظلم لا يعلم إلا الله مداه وتداعياته، نتمنى على الله أن يعجل بالفرج على المصريين وأن يوحد كلمتهم ويتفقوا على أمر جامع يرضي الجميع.
لقد فتحت مصر أبوابها كما - فعلت الدول الأشقاء الأخرى - لتستقبل عشرات الآلاف من السوريين الفارين من نيران باغي دمشق، ووجدوا في مصر الحضن الدافئ الذي تعودوه، ومنّوا النفس بعيش آمن حتى يفرج الله على الشام وينقشع عن سمائها جور الظالمين.. ولكن فوجئ السوريون بالقرارات الجديدة التي اتخذتها الحكومة المؤقتة التي حرمت السوريين من كل الامتيازات التي توفرت لها في ظل الرئيس المعزول محمد مرسي من حيث المعاملة والإقامة والدخول والخروج والعمل والاستثمار، وهذا ما لم نكن نتصور حدوثه فالسوريون وفدوا إلى مصر ليكونوا في ضيافة أشقائهم الشعب المصري، ليخفف عنهم بعض معاناتهم التي لا تتحملها الجبال الراسيات، بعيداً عن المماحكات السياسية الجارية في مصر، ودون الانحياز لفئة دون أخرى، أو حزب دون حزب، فوجودهم في مصر كان سببه الهروب من جحيم النظام السوري الباغي، ليسعدوا بالأمن والأمان الذي افتقدوه في بلادهم وليس ليكونوا إلى جانب طرف دون الآخر!!
و(عشمنا) في عقلاء مصر وحكمائها أن يجنبوا السوريين الوافدين كل ما يجلب عليهم السوء وشظف العيش وقسوة المعاملة فهم ضيوف مصر.. ضيوف الشعب المصري كله بغض النظر عما يجري في شوارع مدنها من مناكفات وخصومات بين أطيافه المتنوعة وأحزابه المتعددة، فالسوريون يحترمون الجميع ويقفون على مسافة واحدة من الجميع.. فالله الله يا شعب مصر في ضيوفكم الوافدين من بلاد الشام!!
هل تتنكر مصر الكنانة لنصفها الآخر
محمد فاروق الإمام